معهد الفنون الجميلة باكادير
الموسم الدراسي: 2024-2025
المادة: سيكلوجيا الفن
الموضوع: سيكلوجيا لإبداع الفني
مقاربة سيكو-معرفية
مقدمة
النشاط الذهني، في علوم المعرفة، هو مختلف العمليات التي يقوم بها الدماغ و هو يؤدي وظائف عليا مثل الإدراك و التذكر و الانتباه و الاستدلال.
أما الإبداع فهو القدرة على إنشاء موضوعات جديدة ذات قيمة ودلالة اعتمادا على مواد معطاة. و هو ما يدرك نتيجة لتفاعلات بين عناصر المعرفة و الذكاء و التجربة و الجهد و الشغف. و تؤثر فيه عوامل مرتبطة بسمات فردية مثل نباهة و حساسية و روح و زخم الإبداع لدى المبدع.
المحور الأول: الإبداع و الدماغ
«الإبداع أو حينما يلهو الذكاء مع نفسه» (ألبرت أنشتاين)
من الناحية التاريخية، نلفي تباينا في وجهات النظر إلى الإبداع عموما و الإبداع في الفن خصوصا. إذ تتمايز في هذا الإطار سبع مقاربات:
- المقاربة الميثولوجية: تنسب الإبداع الى قوى خارجية خارقة. و قد دل الشاعر العربي أبو العلاء المعري في كتابه «رسالة الغفران» إلى هذا البعد في الشعر الجاهلي وارتباط عبقرية الشاعر ب «وادي عبقر»، و هو وادي الجن الذي يرتاده الشعر طلبا للإلهام الشعري؛
- المقاربة البراغماتية : تعتبر الإبداع قدرة تقبل التعلم و التطوير، و أن الأمر لا يتعلق بخاصية فارقة ينفرد بها «المبدع» مقارنة بالأخرين؛
- المقاربة التحليلية (التحليل النفسي): و تفسر الإبداع بالتفاعل الذي ينشأ بين عالمي الشعور و اللاشعور، و هو بمثابة شجرة من الرموز (أعراض، حلم، استيهام…) دالة على دينامية نفسية داخلية لها علاقة بالنمو الجنسي للفرد؛
- المقاربة السيكومترية: وتفترض بأن الإبداع ذكاء مشترك يتفاوت الناس فيه بنسب قابلة للقياس و التفييء تبعا لمعاملات ذكاء تقيسها اختبارات سيكومترية؛
- المقاربة المعرفية: تؤكد على دور النشاط الذهني في عملية الإبداع، الذي يعبر عن سيرورة تشتغل فيها عمليات ذهنية تتفتق عنها أفكار أصيلة؛
- المقاربة السوسيو- وجدانية: و تقارب الإبداع في علاقته بشخصية الفرد و محفزاته التي تتأثر سلبا أو إيجابا بمجال السوسيو- اقتصادي؛
- المقاربة التفاعلية «كرة الطاولة»: و تعتير الإبداع ثمرة للتفاعل بين مجموعات المبدعين؛
المحور الثاني: الدماغ والإبداع
نجد في موضوع العلاقة بين الدماغ و الإبداع نظريتان:
- نظرية الثنائية الدماغية التي تنسب لنصفي الدماغ دورين مختلفين. فالنصف الأيسر من الدماغ مسؤول عن انبثاق الفكرة المبدعة و النصف الأيمن مسئول عن فهم و تحليل المشاعر. و يربط بينهما الجسم الجاسئ corps calleux وييسر التواصل بينهما مما يؤدي تعزيز النشاط الإبداعي؛
- نظرية الأسس. النورولوجية Neurologique للنشاط الإبداعي.
أصبحت النظرية الأولى نظرية متجاوزة. فقد مكنت الطفرة التقنية في مجال المسح الإشعاعي و التصوير الرقمي من تطوير البحث الدماغي واستكشاف النشاط الذهني بالملاحظة المتزامنة و المباشرة للدماغ أثناء آداء مهام محددة للاطلاع على عمله واستجاباته. الأمر اذي أدى إلى تضاعف المنشورات العملية في موضوع «الإبداع و الدماغ» خلال القرن الواحد و العشرين مقارنة بالمنشورات في السابق.
يتداخل في الإبداع سلوكان متعارضان – متكاملان:
– سلوك إرادي يتحكم في الأفكار إنتاجا و تنظيما و كبحا…، و
– سلوك غير إرادي يقيم مسافة وتباعدا مع الضوابط و الرقابة الذاتية و الموضوعية مما يسمح للفكر بالتسكع وللأفكار بالتداعي.
يستدعي السلوك الأول مناطق دماغية مسؤولة عن وظائف التحكم في المشاعر وحالات الانتباه… وبحسب ما بينته دراسة للباحث الأمريكي (روجر بيتي) اعتمد فيها تقنية التصوير الخلوي، فإن الباحة الامامية يتآزر عملها مع عمل الباحة الما قبل-جبهية – التي لها دور في تنظيم الأفكار و البحث عن الجديد و في المجازفة و الفوضى الخلاقة؛ بمعية الجسم الجاسئ و الموضع الجوفي (نواة تحت قشرية تساهم في إنتاج الأفكار المفاجئة و العجيبة). وبذلك، يمكن القول بأن الإلهام و إشراق الأفكار المبدعة مشروط بتباطؤ نشاك الباحة الجبهية.
تحدد أليس فلاهرتي السيرورات الدماغية المتدخلة في النشاط الإبداعي في ثلاث سيرورات:
- سيرورة الأفكار المتدفقة التي يستجيب لها نظام العمل الافتراضي المتموقع في القشرة الحزامية الخلفية و في القشرة الجبهية الإنسية. يولد هذا النظام، بتلقائية، تداعيات و ترابطات فكرية وصوَرية غير منتظرة تستدعي المعارف المخزنة في الذاكرة؛
- سيرورة تتميز بها أبرز الأفكار التي تولدت بواسطة النظام السابق، و التي تمر عبر نظام العبقرية المتواجد في اللوزة العصبية الثنائية قبل أن ترسل إلى نظام المراقبة الذي يعمل على تقييمها و مراجعتها؛
- سيرورة تتم فيها المصادقة على أجود الأفكار التي يعيد نظام التحكم تأطيرها. نظام يوجد في اللوزة العصبية الداخلية في القشرة الجبهية الأمامية الجانبية؛ يقيس القوة الإبداعية لهذه الافكار ويعيد توجيه البحث بكبح أنماط التفكير الألية و مقاومة الأفكار العادية.
تبين هذه السيرورات بأن الإبداع فاعلية يتداخل فيها المعطى المشترك و المعطى الأصيل، أنظمة الواقع و أنظمة التخييل في الدماغ. و بذلك، فالمستوى الإبداعي للفرد يرتبط ارتباطا وثيقا بنوعية وقوة التنشيط الشبه – تلقائي لنظام العمل الافتراضي ونظام الانتقاء و نظام المصادقة.
المحور الثاني: كفايات الإبداع
الإبداع تمرد على ما هو قائم و ضد نظام الأشياء الطبيعي. فنشاطه يقتضي تفكيك الخطاطات الذهنية السابقة و بناء منظومات جديدة. وقد بينت الأبحاث العلمية علاقة الإبداع بذكاء الفرد و معرفته لأن المعرفة تساعد على فهم الوضعيات و دمج المعطيات القائمة وتشجع على التفكير خارج الصندوق، مع مراعاة الوسطية لأن كثرة المعرفة تنتج عقولا صلبة وتحد من المرونة المعرفية و تداعي الأفكار.
تساعدنا المقاربات السابقة على تحديد الكفايات التي يستدعيها النشاط الإبداعي و التي تتوزع بين ما هو معرفي و نزوعي و وجداني و بيئي.
أولا، الكفايات المعرفية الخلاقة:
هي الكفايات الضرورية للنشاط المعرفي المبدع. ويتعلق الأمر ب:
- أن يحدد المبدع الموضوع و ينظر إلى المشكلة من زوايا مختلفة بأن يتخيل و يتمثل ويتصور و يتلاعب بالأفكار ذهنيا حتى تنبعث الأفكار المبدعة؛
- أن يحول الموضوع واو المشكلة إلى رموز دالة عليها؛
- أن يقارب بين هذه الأفكار و يدمجها دمجا انتقائيا؛
- أن يفكر بشكل متباين، أي أن تكون له القدرة على استخراج عدد كبير من الأفكار انطلاقا من مثير واحد له قيمة إبداعية؛
- التقويم الذاتي؛
- المرونة المعرفية أو القدرة على استكشاف مسارات و زوايا جديدة و إدراك علاقات بعيدة و غير مألوفة بينها. (بينت مجموعة من الدراسات دور اللوزة الدماغية و إفرازات النورادرينالين الذي يعرف كهرمون وكناقل عصبي يفسر الشعور بالضغط أو اللذة و أنشطة التعلم و التذكر و التركيز و الانتباه)؛
ثانيا، الكفايات النزوعية الفارقية
و يقصد بها الدوافع الشخصية التي تدفع الفرد إلى الإبداع و إلى مجال أو تعبير أو نوع إبداعي خاص، و التي تتغير من مبدع إلى آخر بحسب سماته الشخصية و منهجه في التفكير.
يحدد الباحثون ست سمات مميزة للشخصية المبدعة:
- المثابرة؛
- استسهال الغموض؛
- الانفتاح على تجارب جديدة؛
- الفرادة؛
- المجازفة؛
- الانفصال عن الواقع.
(يختزل باحثون آخرون هذه الكفايات النزوعية في ثلاثة كفايات، هي: الانفتاح العقلي و التجربة و الفضول)
ثالثا، الكفايات الوجدانية
أي ما يجده الفرد في نفسه من مشاعر و انفعالات و أحاسيس إيجابية أو سلبية تدفعه أو تمنعه من الإبداع. و قد اختلف في العلاقة بين الوجدان و الإبداع.
يقارب الفنانون بين عملهم الفني و مشاعرهم الوجدانية التي تعبر في حقيقتها عن ما يشعرون به سواء أكان إيجابيا أو سلبيا.
فكوفمان (..) اعتمد نظرية المعايرة المعرفية لشوارتز و استنتج بأن حالة نفسية جيدة دليل على الإشباع المبكر و ما يترتب عنه من خفض للجهد الذي ينخفض معه تدفق الأفكار المقترحات. أما هيرتز و فريقه فالعلاقة بين الوجدان و المشاعر تختلف باختلاف موضوع و نوعية النشاط الإبداعي. اختلاف تفسره، في نظرلوبارت وجيتز، الخبرات الذاتية و المشاعر المرتبطة بها التي تعمل على تحفيز الذاكرة. يتعلق الأمر بنوع من الصدى الوجداني بين الترابطات المبدعة بين «المفهوم المصدر» المفعل أثناء آداء المهمة و مفهوم جديد متعلق به وجدانيا.
رابعا، تأثيرات الوسط
نعني بالوسط البيئة الموضوعية التي ينشأ فيها الفرد: المثيرات الحسية، المجتمع، العلاقات، الثقافه… و التي تشتغل كمثيرات تؤثر على الفاعلية الإبداعية.
و قد انتبه إلى تأثير الوسط على شبكة الخلايا الدماغية منذ زمن بعيد. و هو الأمر الذي يتأكد من خلال أبحاث علمية معاصرة. فلقد بينت تجارب علمية حول تأثير المثير الحسي على دماغ القردة بأن:
- الدماغ يستقبل المثير الحسي، يعالجه، و ينتج ردود فعل يثبٍّت بعضها و يهمل الأخرى؛
- أن إدراك الواقع ادراك يتجدد على الدوام و لا وجود للمكتسب النهائي و الثابت. فالدماغ يتغير اشتغاله بشكل مستمر بتغير العوامل الوراثية و متغيرات الوسط و التوجهات التي نختارها؛
- أن المرونة التي تتصف بها الخلايا الدماغية تمكن الدماغ من بناء ترابطات متجددة باستمرار؛
و بالتالي يمكن القول بأن الوسط يمكنه أن يحفز أو يكبح النشاط الإبداعي بما أنه يؤثر في الوظائف العليا للدماغ و في التجربة الفردية.
المحور الثالث: اللاوعي الخلاق
« في الغياهب ينشط الخيال بقوة أكبر من نشاطه في الأضواء» (إيمانويل كانط، فيلسوف ألماني)
لا يتلقى دماغنا الواقع بصورة سلبية، بل يعيد إنتاجه عبر فهمه و تأويله وتفكيك رموزه على ضوء محدداته الوراثية و التجربة الذاتية و الشروط الواقعية.
وبناء على ذلك، فإن ما يتم إدراكه ينعكس في أفكارنا و مشاعرنا و قراراتنا وشخصيتنا انعكاسا لا نعي تأثيره ولا نتحكم في اشتغاله. فالدماغ ينتقي ما نشعر به و نتمثله كأفكار و صور و غيرها و يبث فيها – يكشف بعضها و يغشي البعض الآخر- بشكل آلي في غفلة من وعي الفرد و إرادته و بنوع من الاقتصاد في الجهد. و هو ما يفرض علينا توخي الحذر من مدركاتنا و أحكامنا.
هذا اللاوعي المعرفي له دور اساسي في سيرورة الإبداع و عمله لا يفتر أو ينام ابدا. و الدليل على ذلك أن لحظات الإشراق العظيمة (الأوريكا)، حيث ينشئ لاوعينا المعرفي، و بتكتم كبير، علاقات بين أفكارنا و تجاربنا السابقة و الآنية و يشغل، لأجل ذلك، الشبكة الدماغية محرضا خلايا الدماغ لكي تستجيب فينبثق الإبداع فكرة أو حلا أو نشاطا أو عملا فنيا…فجأة و بدون سابق إنذار أو توقع. فأن تبدع، بعبارة أخرى، هو أن تتعارك مع معارفك المكتسبة و يقينياتك و ثقافتك و عاداتك لتقوم بشيء جديد و مختلف.
الكفايات | العوامل المتدخلة في الإبداع | الأسس الدماغية للإبداع | |
النشاط المعرفي | التصور الذهني | الباحات البصرية الأولية الفصوص الجدارية الدنيا المسالك الظهرانية و البطنانية القشرة ما قبل- جبهة (الجانبية و الوسطى | |
التفكير المتباين | الفص الأمامي (الجبهي) | ||
المكتسبات المعرفية | الفص الجداري الداخلي | ||
المرونة الدماغية | النشاط الهرموني النواةالقاعدية اللوزة الدماغية | ||
تداعي وترابط الأفكار | باحات التداعي و الربط الجسم الجاسئ خلايا الربط الدماغية المادة البيضاء | ||
النزوع | البحث عن ماهو جديد | نشاط الدوبامين | |
الانفصال عن الواقع | نسبة الدوبامين نسبة السيروتونين | ||
المجازفة | الفص ما قبل جبهي الإنسي الفص ماقبل جبهي الوسطي Striatum اللوزة ما تحت المهد | ||
المشاعر الوسط | اليقظة و الانتباه الاكتئاب اضطراب المزاج الإثارة و التدريب ثراء الوسط | موجات ألفا اللوزة الدماغية الكاتيكولامين اللوزة الدماغية الفص ما قبل جبهي الظهراني الجانبي التلفيف الحزمي النورادرينالين وكر الصرع الفص الصدغي الإنسي الأيسر زيادة حجم القشرة الدماغية قوة الترابط الخلوي التشجير الخلوي الجذعي |
البنيات الدماغية المتدخلة في النشاط الابداعي
الأستاذ عبد السلام أولباز (أستاذ مادة علم نفس الفن بالمعهد الوطني للفنون الجميلة بأكادير)
No responses yet