في تواصل العقول تناسق الأشياء


و في اختلافها تعارفها
psychology, psychotherapy, therapy room, conversation, room, space, interior design, inner space, setup, chair, psychology, psychology, psychotherapy, psychotherapy, psychotherapy, psychotherapy, psychotherapy
A vintage open book displaying aged, yellowed pages with faded text.
Essais_de_théodicée_sur_la_[...]Leibniz_Gottfried_bpt6k1527199k

 

حديث في العدالة الإلهية (لايبنز)

عبد السلام أولباز. مدرس فلسفة, المغرب

يقحم لايبنز نفسه، بصورة غير مباشرة،  في المناظرة الكبيرة بين صاحب «المعجم التاريخي النقدي» (نشر لأول مرة بين سنتي 1696/1697 وأعيد نشره سنة 1702) بايل و كل من  رجال الدين البروتستانت إسحاق جاكلوت و جون لوكلرك والتي كانت سببا في كتابة لايبنز ل«مقالة في العدالة الإلهية».والذي يتناول فيه مشكلات العدل الإلهي و الحرية البشرية و وجود الشر. وتعتبر هذه الأخيرة المعضلة التي تبرز الصراع بين العقل و الدين وفشل الثيولوجيا العقلانية في نظر صاحب المعجم بايل. إذ كيف نبرر وجود الشر في ظل إله يعرف نفسه بصفات العدل والخير؟

يؤكد بايل بأن نور الوحي مباين لنور العقل وعبثية كل محاولات الاستدلال العقلاني على موضوعات الوحي. 

يستهل لايبنز حديث الثيوديسا بخطاب حول توافق الدين مع العقل مؤكدا وحدة الحقائق في الله وفي الإنسان. «سوف نتخلى عن استعمال العقل عندما يتخلى الله عن الاتصاف بالحكمة و يتخلى الإنسان عن الاتصاف بالعقل».

يختلف مفهوم العقل بين بايل و لايبنز.

فالعقل عند بايل هو:

  • ما يمنح الإنسان المبادئ الميتافيزيقية و المنطقية و الأخلاقية الضرورية و الكونية؛

  • ما به نستدل انطلاقا من مقدمات ظنية وصولا إلى نتائج. وهو ما يوقع في الشك أ وفي الخطأ و يخلق معضلات و أزمات.  لذا من المناسب تمحيص هذه المقدمات. فمهمة الفلسفة هي «أن تدل على النتائج العبثية التي يؤدي إليها العقل الذي يتحرك بدوافع غير عقلانية و الكشف عن تناقضاته مع قواعد العقل الخالص؛

  • لا يؤدي العقل بالضرورة إلى الحقيقة وليس هو المصدر الرئيسي لها و الوعي(الإرادة و القلب) و الفطرة مصادر مشروعة للحقيقة ؛

  • يقتصر دور العقل في التقويض والانتقاد واستدامة الشك.

يعترض لايبنز عن تصور العقل كقدرة على الاستدلال الجيد أو السيء أو قصر مفهومه في «هذه الآراء و الخطابات البشرية و عادات الناس في الحكم». فليس العقل وسيلة أو مصدرا للحقيقة و إنما هو هذا الوصل الضروري بين الحقائق المعلومة و غير المعلومة نسبيا، و التي نوافق عليها به. فالحقيقة  الدينية ليست منفصلة عن  ما يستعقل بل هي حقيقة ضمنه تتوالى مع الحقائق غيرها. أي أن التفريق بين الوحي و العقل تفريق نسبي بالضرورة.  ذلك أن العقل البشري المنتهي يروم معرفة العلل التي بها تكون الأشياء، و الوحي، بخلافه، يحثنا على الإيمان بالأمور بلا معرفة ب  «كيف «أو «لأي» خاصة ما يتعلق منها بالأمور الخارقة و العجيبة مثل المعجزات و التجسيد. غير أن هذا الفرق لا ينفي عنها صفة الحقيقة مطلقا لأنها لا تشكل جزءا من من سلسلة الحقائق المتضمنة في العقل البشري المحدود ولكنها متضمنة في العقل الكلي؛ ولا يمكن للحق أن يضاد الحق. وكل مساءلة لتوافق الحقيقتين الدينية و العقلية/البشرية يفضي إلى مساءلة انسجام العقل الكلي مع ذاته. يتعلق الأمر بتطابق  على أساس صوري بين العقلين يقصر الاختلاف بينهما ، سواء في ماهو خارجي – كيفية تشكل الحقائق- أو ما هو ذاتي – نوعية الحقائق/الأزلية و الموضوعية، الطارئة و الواقعية

على هذا الأساس، يتفرد موقف لا يبنز بالتأكيد على أن الحقيقة واحدة وهو ما يعني أن الدين و العقل لا يشكلان ثنائية  – مثل الثنائية الرشدية و اللوثرية- يختلف فيها نمط الحقيقة بينهما بقدر ما ينتميان إلى نفس النسق الابستيمي، نسق العقل الكلي. و الفرق بينهما يؤول إلى الفرق بين ما يقبل الفهم و ما يقبل البرهنة و ما يمتنع عنه البرهنة و ما لا يقبل التصديق.  ذلك أن الشرط الوحيد لوحدة الحقيقة هو امتناع التناقض الخارجي والداخلي. وبالتالي، فإن ما نعتبره تعارضا بين الدين و العقل لا يمكن أن يكون إلا تعارضا شكليا وبدون اساس منطقي.  لكن، كيف للعقل البشري أن يسلم بالحقائق المنزلة دون أن يناقض نفسه؟

جوابا على هذا الإشكال، يفرق لا يبنز الحقائق الأزلية و الضرورية، ميتافيزيقيا و منطقيا، و التي تؤدي مناقضتها إلى الوقوع في التناقض أو العبث، والحقائق الموضوعية  وهي «مختلق القوانين التي قضاها الله في الطبيعة و التي تقبل التعطيل منه» والتي لها ضرورة أخلاقية مادام ان الله اختارها وفقا لمبدأ الأفضلية»،  وهي قوانين قد تتعطل باستثناء منه، أي أن التناقض ممكن فيزيائيا مستحيل منطقيا لأن توافق الحقائق أمر موثوق. فأفعال الملائكة مثلا حقيقية بالنظر إلى طبيعتها  الملائكية.

يرد لايبنز على بايل، أيضا، في مسألة  عجز الإنسان عن  الفهم و البرهنة  على ما لا يقبل التصديق بواسطة العقل من خلال التفريق بين أمرين:

أولا، ضرورة التفريق بين عمليات عقلية يخلط بينها بايل غالبا، وهي: التفسير و الفهم و الإثبات و التأييد.

ثانيا، التفريق بين ما فوق قدرة العقل و ما ضد العقل.

في أن الثيولوجيا تقوم على التفسير بدون فهم، و على التاييد بدون إثبات، و في تأويل الفرق بين ما فوق العقل و ما ضده

برأي لايبنز ، لا تحتاج المعرفة في الثيولوجيا  لكي  ترد على الاعتراضات الموجهة لها  إلى الفهم والبرهنة بالضرورة.  وهو بذلك يحدد ضوابط اي مناظرة فلسفية بالنسبة للمدعي و المعارض والحجج الضرورية للمرافعة بين كليهما.

تفسير الشيء يعني الكشف عن معناه لكي ندرك موضوعه. فالتجسيد يفسر مثلا، كعقيدة تسلم بأن أبن الله اتحد مع الطبيعة البشرية مع احتفاظه بطبيعته الإلهية. ماذا  يعني ذلك؟ يمكننا تكوين فكرة عن ذلك، على سبيل القياس، من خلال  اتحاد الجسد بالروح. والتفسير لا يمكنه أن يتجاوز حدود هذا القياس مادام  الفهم يمتنع  ويستحيل علينا معرفة الكيفية التي تم بها الاتحاد بين الابن و الأب. ففهم الشيء يعني امتلاكه والدخول الكامل إليه: تكوين فكرة واضحة ومتميزة ومناسبة لما هو الشيء وما يحتوي عليه.

وعلى ذلك، فإن التفسير يقرب المعنى  أو تحديد علاقة بين حدين (س بالنسبة ل ص  يشبه نسبة أ  إلى ب)، ولا يمكننا من النفاذ إلى الشيء وإدراك حقيقته.

يتعذر علينا أيضا البرهنة على المعجزات بتحديد اسبابها القبلية . وبالمقابل، يمكننا نقض الاعتراضات المصوبة ضدها ببيان امتناع التناقض الميتافيزيقي أو المنطقي فيها وأن تناقضها ظاهري فقط أو بالنظر للسير العادي للطبيعة.

كيف لنا أن ندافع على ما لا نفهمه؟ بمجرد إثبات أن الكتاب المقدس كتاب وحي فإن العقائد التي يكشف عنها لن تقبل النقض. واي اعتراض على ذلك يجب أن يفند وإلا امتنع في حكمها الصدق. فالقضية و نقيضها يستحيل في حكمهما الصدق معا. فإما أن الاعتراض استدلال يثبت عبثية العقيدة و أنها ليست، بالتالي، وحيا إلاهيا أو أن الاعتراض غير برهاني يكفينا بيان تهافته وأنه يستجيب فقط للظواهر والوقائع  أو للاعتبارات الطبيعية فقط.

لا يتعلق الأمر بتمحيص العقيدة أو استجلاء أدلتها الموضوعية، اي فهم ما لا يقبل الفهم والبرهنة على ما لايقبل البرهنة العقلية، وإنما يتعلق بالحكم على قبول الاعتراض وصلابة  الحجج ضدها. وهو امر لا يحتاج إلى إلمام عميق بالدين بقدر ما يحتاج فقط لدراية بالقواعد المنطقية المشتركة وتوظيفها. يقول لايبنز:

«[] إن عبقريا عاديا  منتبها يستعمل القواعد المنطقية المتداولة، يمكنه الرد على أعتى الاعتراضات على الحقيقة عندما يكون الاعتراض معقولا وندعي برهانيته. []إذ علينا فقط أن نفحص الحجة باتباع القواعد المنطقية لنتبين تناقضه الصوري أو تهافت مقدماته»

على هذا الأساس، يمكننا أن ندرك توافق حقائق الدين مع العقل الكوني.  صحيح أن عقلنا لا يمكنه فهم ما هو خارج قدرته، ولكنه قادر على رد ما يناقضه، أي ما  ثبت أنه خاطئ  بالدليل. 

«إن غرائب الإنجيل فوق قدرة العقل ولكنها لا تتعارض معه. وأعتقد بأن مفهوم العقل في المقدمة الأولى يختلف عنه في الثانية.  إذ يختلف العقل البشري عن العقل الكلي. فهذا الأخير الذي عند الله على صواب دائما  وأن العجائب الإنجيلية ليست ،مطلقا، لا فوقه  ولا معارضة  له. أما العقل البشري فالتوافق بين العجائب الإنجيلية ومقولات الفلسفة متعذر بالنسبة له. والحال أن ما لا يتوافق ظاهريا مع عقلنا يبدو لنا ضد العقل، مثلما أن ما لا يبدو لنا أنه مخالف للحقيقة، يبدو لنا معارضا لها».

مافوق/وما ضد العقل وضرورتهما الفيزيائية والهندسية  يسمحان بالتفريق بين ما يتعارض مع الحقائق الأزلية (ضد العقل)، تلك الحقائق المستحيلة منطقيا و ميتافيزيقيا و ما  فوق قدرة العقل الذي «يتعارض، فقط، مع تعود الناس على تجربته و فهمه» أو المستحيل فيزيائيا.  على هذا الاساس، يفترض لايبنز بأن العقل الإلهي و العقل البشري يختلفان في الدرجة لا في الطبيعة «مثلما تختلف قطرة الماء عن المحيط، أو يختلف، بالأحرى،  النهائي عن اللانهائي».  والحقائق الغيبية التي لا يمكن للعقل البشري فهمها لا تناقض حقائقه ولا مبادئه.  لذلك فالتوافق بين الدين والعقل توافق أكيد ويقيني يستغني عن الحاجة إلى تفسير العقائد المسيحية تفسيرا كاملا(كيف و لماذا). من المؤكد أن هذه العقائد لا يمكن إدراكها طبيعيا ولكنها تشكل سلسلة وحيدة لا تنقطع ولاتتناقض منطقيا و ميتافيزيقيا.

بناء على ذلك، لا وجود، بحسب لايبنز، لاعتراضات عقلية لا تقبل الحل ضد الدين. لكن ماذا عن الشر؟ ألا يتعارض وجوده مع الكمال الإلهي؟ كيف للإنسان أن يعاني بسبب خطأ الغير (خطيئة آدم)؟ كيف لا يمنع الله، رغم قدسيته و خيريته ، السقوط ويلعن بدل أن يغيث؟

يسقط العقل في احتمالين:  الثنائية المانوية أو الإلحاد. إما الجمع بين النقيضين رغم صعوبة ذلك نظريا وتبرئة الله من الخطيئة الأولى وتفسير الشر بالتجرية، وإما القول بسخافة فكرة وجود كائن كامل يفعل الشر وتستخلص النتائج المترتبة عن ذلك. وفي الحالتين معا فإن الديانة التوحيدية تصبح موضوع اعتراض.

الشر هو الحجرة التي تتعثر عليها جميع الثيولوجيات العقلية. قد يكون الشر اختيارا لتجلية الحكمة الإلهية . لكن هذا الأمر غير أخلاقي. فكيف لي أن أحذرك من خطيئة وأيسر لك ارتكابها بدل أن أمنعك لكي أجلي حكمتي وقوتي؟

يبرر لايبنز في الجزء «المذهبي» لكتاب «العدالة الإلهية» وجود الشر بالإحالة إلى أسباب قبلية. فالمقارنات الأنتربومورفية  غير مناسبة. إذ أن وحدة العدالة لا تلغي مسافة  الإنسان  عن الله، وكونية قواعدها لا تعني المساواة في حق التقاضي بين الله و الإنسان. ففي الشأن البشري، لاتدرك الحقيقة دائما  وغالبا ما يكيف القاضي الحكم وفقا للقرائن والاحتمالات والتخمينات والأحكام القبلية. (لايبنز)،  وهذا ما لا يستقيم مع الله الذي لا يمكن أن يتهم وفقا للقرائن الظنية وفي غياب الحقيقة.  كما  يجب أن نأخذ بالاعتبار أيضا صفة المتهم. فالثقة التي لدينا في الله تمنعنا من مؤاخذته بقرائن ظنية.

بالنسبة للايبنز، فإن  «العقل هبة إلهية،  تماما مثل الدين»، ومعارضتهما تعني خلق التعارض بين الله وذاته. وبذلك، فإن الزعم بغلبة الدين على العقل هو يؤول منطقيا إلى الزعم بغلبة العقل على الدين.  فالدين لا يغلب العقل مطلقا و يغلب، فقط، التعليلات الواهية والأحكام القبلية  و التمظهرات. فالامور الغامضة في الدين تصدم عاداتنا في ادراك الامور وقبولها علينا التخلي عن الالحاح على فهمها. إن انتصار الدين  يعني انتصار العقل. يكفي أن نترك العقل يكمل عمله البناء ولا نكتفي بتوظيفه في الهدم و النقض.  «[] سيعدنا العقل بأمور عميقة حين نتبعه إلى حيث يسير، ليس بنفس خصامي، و لكن برغبة ملحة في البحث عن الحقيقة و إظهارها.» (لايبنز)

يحيد عمل لايبنز بثلاثة مواقف:

  • موقف الكلامي الملح على المدافعة عن الدين بالبرهنة على غيبياته  بالعقل؛ وهي مهمة مستحيلة و مضرة بالدين؛

  • موقف الولاء التام الذي يقود إلى التضحية بكل مبادئ العقل لأن الدين ليس عقلانيا؛

  • موقف الشك الذي يعتبر بأن الثناقض بين العقل والدين يمتنع عن الحل. موقف ينتهي إما إلى الحياد أو القول بالمصالحة بينهما في مستوى العقل الكلي لأننا غير قادرين عليها الآن، أو الإخلاص المطلق للحقيقة الدينية.

أما موقف لايبنز فلا يقبل إلا نظاما وحيدا للحقيقة، مع التسليم بوجود حقائق تختلف من حيث نوعها ونمطها ومصدرها. وأن العمق العقلي للدين – عدم تناقضه المنطقي والميتافيزيقي- لا يعني قابلية الدين للبرهنة والفهم (المسيحية عائق).  لذلك، فالدين يتجاوز العقل في كشفه عن حقائق لا تنتمي إلى السلسلة التي تشكل العقل البشري. ومع ذلك، فالدين يبقى جزئيا لأنه يوحي ببعض الحقائق العلوية فقط والتي نجهل كيفية ارتباطها بالحقائق التي نعرفها. أي أن هذا السلم الناقص من الحقائق ليس مؤشرا على عدم التوافق او التناقض ، وإنما عن نقص في العقل سنتخطاه في الحياة الأخرى. فالدين ليس ضد العقل، في نظر لايبنز، يل هو انتظار و أمل في فهم كلي، و رجاء في أن يدرك العقل كماله و ندرك السلسة الكاملة و المتصلة لجميع الحقائق.

(ترجمة تفاعلية ل عبد السلام أولباز) 

Tags:

Categories

No responses yet

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Latest Comments

No comments to show.
Review Your Cart
0
Add Coupon Code
Subtotal