في تواصل العقول تناسق الأشياء


و في اختلافها تعارفها
psychology, psychotherapy, therapy room, conversation, room, space, interior design, inner space, setup, chair, psychology, psychology, psychotherapy, psychotherapy, psychotherapy, psychotherapy, psychotherapy
A vintage open book displaying aged, yellowed pages with faded text.

يحدد هيجل الغاية من محاضراته حول التاريخ الفلسفي، أي التاريخ العام للإنسانية. لا يتعلق الأمر  باستخلاص أفكار عامة وتوضيحها من خلال أمثلة تاريخية، وإنما يتعلق بتقديم محتوى ومضمون هذا التاريخ.  

التاريخ الفلسفي  هو تاريخ الروح، الروح أزلية  و لا تعترف بالماضي، التي تقود الشعوب و أحداث العالم نحو غاية مطلقة وضرورية.  «أن نتعلم معرفة الروج ودورها المرشد هو الهدف الذي نقترحه هنا» (ص.39). 

المفهوم العام في فلسفة التاريخ

  1. مفهوم العقل

تتوجه الفلسفة إلى التاريخ بفكرة وحيدة وهي «أن العقل يحكم التاريخ» و «أن مساره التاريخ مسار عقلاني». فالعقل،تبعا لما هو مبرهن عليه في المعرفة التأملية، هو» الجوهر والقوة و المادة اللا متناهية  لكل الحياة الطبيعية والروحية، وهو أيضا الشكل المطلق لإخراج محتواه الخاص. فهو جوهر أي ما به وفيه توجد الموجودات وتتماسك. وهو قوة لا متناهية يمتنع في حكمه القصور أو النقص لكي يكون مجرد فكرة أو مبدأ واجب الوجود بدون وجود فعلي. و هو المادة اللامتناهية  لكل ماهو حق وضروري، ويحتوي على مادته الخاصة التي بها ينجلي نشاطه الخاص. فهو ليس في حاجة لأدوات خارجية أو وسائل جاهزة تغذي نشاطه. فهو يتغذى بنفسه و بها يشتغل ويقصد غايته المطلقة ويخرجها للوجود من الداخل إلى الخارج في الكون الطبيعي و الروحي معا- في التاريخ الكوني. فالفكرة هي الحق والأزلي والقوة المطلقة التي تظهر في العالم ولاشيء يظهر فيه غير جلالته  و جلاله: هذا ما تبرهن عليه الفلسفة أو يفترض أن تكون قد تمت البرهنة عليه.»

واجب على التفكير الفلسفي  نفي الصدفة و العرضية  والبحث، في التاريخ، عن الهدف الكوني والنهائي للعالم، لا البحث عن هدف خاص للعقل الفردي أو الشعور الخاص. فالهدف الكوني- النهائي محتوى يشهد على نفسه بنفسه : قكل ما قد يثير الاهتمام قائم عليه. العقلاني هو ما يوجد بذاته و لذاته. يتشكل باشكال مختلفة يتمظهر و يتجلى من خلالها بوضوح حضور الشعوب. (لكل شعب خصوصية متفردة).  فجميع الشعوب تتحكم فيها غاية  نهائية بحكم حضور «ال» عقل / العقل الإلهي في التاريخ الكوني. وهو الأمر الذي سيبرهن عليها العقل من خلال  نظرية للتاريخ الكوني باعتبارها صورة لعمل «ال – عقل». العقل وليس التاريخ لأن، هذا الأخير، مجرد شكل ممكن لتجلي وانكشاف هذا العقل الوحيد ، أو هو مجرد نسخة عن النموذج الاصلي الذي يعبر عن نفسه من خلال الشعوب. (ص.ص 47-49). 

«من دراسة التاريخ تتولد نتيجة لا بد منها. وهي أن كل ما يقع فيه يتم ضمن  المسار العقلي الضروري لروح العالم. هذه الروح التي تعتبر جوهر التاريخ والتي تظل أبدا واحدة وفي انسجام مع نفسها والتي تنكشف في حياة الكون. (…) لذلك ، فإن موضوع التاريخ الفلسفي موضوع ملموس يحتوي في ذاته كل المظاهر المختلفة للوجود: روح العالم. هذا الموضوع الملموس في تطوره الضروري هو ما تتناوله فلسفة التاريخ. فالحدث الأول بالنسبة للفلسفة،  ليس هو المصير أو القدرة أو أهواء الشعوب أو التدافع  العشوائي للأحداث، وإنما الروح التي تقود هذه الأحداث وتنتجها،تلك التي تسوق الشعوب(…).  إن الكوني الذي يتوجه إليه التاريخ الفلسفي هو المادة التي تحتوي على كل شيء وتوجد في كل مكان لأن الروح لا تفارق نفسها ابدا.» (49-52)

2) أصناف الوعي التاريخي

كيف يظهر التاريخ للفكر؟ 

الصنف الأول: الوعي التاريخي المتغير

ينشأ الصنف الأول من المشهد الحافل بالتغيرات التي يخضع لها الأفراد والشعوب والدول التي تلفت انتباهنا في فترة زمنية وتختفي بعد ذلك. مشهد يسعدنا تارات لما فيه من جمال أ و حرية أو ثراء و يؤلمنا تارات لما فيه من ألم وشر، و يجعلنا نتحسر من المآل المأساوي للعظماء و النبلاء. كل شيء يؤول إلى الزوال، لاشيء يبقى.  

الصنف الثاني:  الوعي المتجدد

ومع ذلك، فإن هذا الصنف المتغير يقترن به وجه أخر: من الموت تولد حياة جديدة. فكرة عرفها الشرق، وربما تكون أعظم فكرة لديهم، الفكرة الأسمى الميتافيزيقا الشرق. يعبر تناسخ الأرواح عن هذه الفكرة فيما يتعلق بالوجود الفردي. نعرف أيضا رمزية الفينيكس، رمز الحياة الطبيعية التي تهيء باستمرار محرقتها  لتحترق فيها، وكأن حياة جديدة تولد من رمادها دائما و ابدا. غير أن هذه الصورة المشرقية تلائم فقط حياة الجسم. وبالمقابل، فالغرب جاء بفكرة أخرى. الروح تعاود الظهور شابة واكثر قوة و إشراقا.  صحيح أنها تحرق صورتها السابقة و ترتقى إلى صورة جديدة تحل مشكلات سابقة وتنتج أخرى، فتكبر بذلك مادة اشتغال الروح. لذلك، يذيع الروح في التاريخ  في صور متعددة لاتنضب . ومع أنها تستمتع بذلك، إلا أن كثافة نشاطها يحرقها لحصول التعارض بينه  وبين هذه الصور. فما كان نتيجة نشاطه يتحول أداة يعمل على تحويلها في عمل جديد. أي أن الروح  يشحذ قواه في جميع الاتجاهات. 

الصنف الثالث:  العقل ذاته

ماهي الغاية النهائية من هذه الوقائع الفردية؟ 

تساهم كل الأحداث التاريخية في نفس المشروع  لكي يدرك الروح غايته النهائية.  هذه الغاية هي العقل ذاته، عقل العالم، والتي يؤمن الوعي  بقدرتها  الكلية. و من شأن التاريخ أن  يدلنا على ذلك لأن التاريخ صورة لعمل العقل» (ص 53-56)

3) «تأملنا إذن تأمل ثيوديسي»

«ما نود معرفته، هو أن الغاية الأزلية تكتمل في نطاق الطبيعة و نطاق الروح الفعلي والفعال في العالم. سيكون تأملنا إذن تأملا ثيوديسيا : تبريرا  لوجود الله  مثلما حاول لايبنز في مجال الميتافيزيقا بطريقته وبمقولات غير معينة. فالشر في الكون، بما في ذلك الشر الأخلاقي، يجب أن يفهم وعلى الروح المفكرة أن تتصالح مع السلبي. إذ أن هذه المعرفة التصالحية ضرورة ملحة في مجال التاريخ  بما أن الشر منتشر في التاريخ الكوني».  و لا يمكن ادراك هذا التصالح إلا بمعرفة الإيجابي الذي يخضع له السلبي و يتجاوز و يطويه النسيان. فالوعي، من جهة، بالغاية النهائية للعالم و إخراجها في الوجود، من جهة أخرى، يبيد الشر ويفقده أي صلاحية في ذاته. تقوم الثيوديسا على جعل وجود الشر مفهوما  في مواجهة القدرة الكلية للعقل. يتعلق الأمر هنا بمقولة سلبية تعلمنا بالكيفية التي تمت بها التضحية بالفضيلة والجمال في مذبح التاريخ. والعقل لا يمكنه  أن يخلد عند مصائب الأفراد لأن الحالات الخاصة تضيع في سياق الهدف الكوني. فالعقل يرى، في الولادة كما في الموت،  العمل البشري الكوني الذي يتحقق في العالم الذي ننتمي إليه. هذا العمل الذي لم نشارك في إخراجه و ما علينا إلا الوعي به و امتلاكه بواسطة الفكر» (ص: 67-68)

تحقق الروح في التاريخ

«علينا أن ننظر في مسالتين: مضمون الغاية النهائية  للوجود- التي تختلط بمفهوم العقل-و كيفية تحققها.» (ص. 70)

أولا، الروح

1/ الروح و الإنسان

«بعد خلق الطبيعة، ظهر الإنسان ككائن ينشأ في عالم ثاني. يتضمن وعينا العام مفهوما عن مملكتي الروح والطبيعة. تشمل مملكة الروح كل ما أنتجه الإنسان. يمكننا أن نتمثل مملكة الله بكيفيات مختلفة.  غير ان الامر يتعلق دائما بمملكة روح يجب ان تتحقق في الإنسان وتخرج إلى الوجود. يضم نطاق الروح لل شيء: يضم كل ما أثار ويثير الاهتمام البشري. والإنسان فاعل فيه لانه الكائن الذي تشتغل فيه الروح» ص 71

2/ الروح في بعدها الذاتي

«ما يثير انتباهنا في التاريخ تحديدا هو هذا الاهتمام الموضوعي الذي تتضمنه الأهداف الجماعية والأفراد الذين يحملونها. و الشيء الذي يحزننا هو بالتحديد المآل المأساوي لهذه المقاصد وهؤلاء الأفراد. نعرف جيدا ما يجذبنا في تاريخ الحروب الميدية أو شراسة إمبراطورية الاسكندر: رؤيتنا تحرر اليونانيين من الوحشية. … وهو اهتمام مادي وموضوعي. لكن، من أي نوع هو هذا الهدف الجوهري الذي يدفع الروح إلى السعي إليه؟ … إنه دين بعينه و علم  بعينه و فن بعينه. كيف بدرك الروح مثل هذا المضمون؟ و من أين يأتي؟

الجواب التجريبي بسيط. فكل فرد، في الواقع، يقصد اهتماما ضروريا: انتماء حزبي، أو ديني؛ فهو متشرب بمجموعة من المعارف و التمثلات الخاصة بما هو صحيح و يوافق الأخلاق الجمعية.غير أن  هذا الاهتمام الخاص  يشغل، في الواقع،  بال شعوب بأتمها ، اي أن التاريخ الكوني هو الذي يظهر بالفعل… كيف للروح، نحن أو الأفراد أو الشعوب، أن تدرك نفس المحتوى؟ (…) مهمتنا إذن هي أن نتناول التاريخ بالنظر إلى غايته النهائية المقصودة من وجود العالم» (ص 72-73)

La détermination historique

1/ الروح وعي بالذات

« قلنا توا بأن الروح ليست بناء مجرد للطبيعة البشرية وإنما هي روح فردية، نشطة وحيوية: وعي  وموضوع هذا الوعي. ولهذا وجدت الروح: أن تكون موضوعا لذاتها. الروح شيء مفكر:  بتناول ذاته، كما هي وكيفما هي، موضوعا للتفكير.و الروح وعي  إذا وإذا فقط كانت وعيا بذاتها. وهذا يعني بأنني أعرف الموضوع فقط عندما أعرف نفسي و أعرف غايتي- إلى حد أن ما أكونه يصبح موضوعا بالنسبة لي ، إلى حد  لا اكون فيه هذا أو ذاك، وإنما يكون ما أعرف هو أنا.  أعرف موضوعي و أعرف ذاتي. وعليه، فإن الروح تكون فكرة محددة عن نفسها، عن ماهيتها، عن طبيعتها. ولن تجد الا مادة روحية  لأن العنصر الروحي هو محتواها و موضوع اهتمامها. فالروح لاتدرك مضمونا جاهز وإنما تعمد إلى بنائه من خلال موضعة ذاتها ومحتواها. وبالتالي، فإن المعرفة هي نمط وجودها. وهذا يدل على أن الروح تبقى دائما في موضوعها الخاص- أي أنها تتمتع بالحرية» (ص 74-75)

2/ الروح حرية

«تعرف الروح من خلال مقابلها المباشر: المادة. ماهية المادة الثقل و ماهية الروح الحرية.  فالفلسفة تبين لنا بأن جميع خصائص الروح تستديم بفضل الحرية، وأنها كلها وسائل للحرية، تبحث عنها وتنتجها. فمن المعارف التي تحملها الفلسفة  التأملية هي أن الحرية هي الحقيقة الوحيدة للروح. أما المادة فثقلها  مرتبط بانحنائها نحو مركز. كما أنها مركبة و مكونة من وحدات منفصلة تميل إلى مركز؛ لا وجود للوحدة في المادة. فهي تجاور لعناصر تبحث عن وحدة؛ أي أنها تبحث عن ضدها وتحرص على تجاوز نفسها. وبالمقابل، فإن مركز الروح يوجد داخلها؛ هو ايضا يسعى إلى المركز- ولكنه هو مركز ذاته. ووحدته فيه لا خارجه. هو في ذاته ويبقى في عنصره الخاص. جوهر المادة في الخارج و جوهر الروح فيه؛ وهذا هو المعنى الحقيقي للحرية. فكوني مستقلا ولست متعلقا بشيء غيري يمنحني الوجود، فأنا حر إذن عندما أكون في عنصري المحض.

عندما تميل الروح إلى مركزها الخاص، فهي تسعى إلى إكمال حريتها. فعندما نقول بأن الروح هو، فهذا يعني أن الأمر يتعلق بشيء مكتمل، ونشط أيضا. الفاعلية جوهره. هو منتوج نفسه، هو البداية و هو الانتهاء.  ليس حريته شيئا جامدا؛ ولكنها حرية نفي مستمر لكل ما يتنافى مع الحرية.  إنتاج الذات،  موضعتها، و التعرف عليها ذاتيا: هذا هو نشاط الروح. بهذا المعنى يوجد الروح لنفسه، في حين أن الأشياء الطبيعية توجد لغيرها؛ وهي بذلك فاقدة للحرية.» (ص 75-76)

3/ «في ذاته» و «لأجل ذاته»

«الإنسان في الواقع هو الإنسان  في الفكر. وهذا يعني أنه ليس مجرد كائن طبيعي مقيد بمداركه ورغباته الفورية، بإشباعها وتوليدها. وهو ما يكون على وعي به بما انه يكبت هذه الرغبات و يقيم التفكير والفكر بين اندفاعة الرغبة و إشباعها. وبالمقابل، فإن الحيوان يجتمع لديه الأمران ولا يقطع بينهما إلا بسبب الألم أو الخوف… ولا يمكنه أن  يحول بين رغباته و بين إشباعها؛ فهو معدم الإرادة ولا يعرف الكبت. أما الإنسان فهو مستقل، ليس لأنه يتمتع بحركة الارادية ، و إنما لأنه قادر على كبح الحركة و تكسير فوريته و بعده الطبيعي».   

ليس الإنسان، باعتباره روحا، كائنا فوريا، بل كائنا يعود إلى ذاته اساسا. هذه اللحظة الوسيطة لحظة أساسية بالنسبة للروح لأن نشاطها يتمثل في الخروج من الفورية و نفيها والعودة بذلك إلى الذات. … فكل فرد يحمل في نفسه مثالا يوضح هذا الأمر. فما يكون عليه الإنسان   متعلق بالتربية و التدريب. أي أنه، في البداية، يكون مجرد إمكانية ليكون على ما هو عليه، كائنا حرا وعاقلا:  هو فقط، في البداية، مشروع لما يحب عليه أن يكون. فإذا كان لحيوان  يكمل تكوينه بسرعة – وهو أمر بدون أهمية لأنه اكتمال كمي فقط- فإن الإنسان، بالمقابل، عليه أن يكون نفسه بنفسه؛  عليه أن يكتشف نفسه بنفسه ويتخلص من العنصر الطبيعي لأنه روح،  و بهذا المعنى، فالروح هو  منتوجه الخاص» ص 77)

4/ الشعوب

«يكتسي الروح شكلا ملموسا في التاريخ الكوني (يمكن اعتباره وعيا ذاتيا جمعيا). فالروح في التاريخ من طبيعة كونية ومحددة يجسدها الشعب.  وهي روح تختلف باختلاف تمثلات الشعوب عن نفسها؛ بالنظر إلى العمق أو السطحية التي  يدركون بها الروح.  وهو ما يتجلى في النظام الأخلاقي والقانوني الذي يعبر عن الوعي أو المفهوم الذي للروح عن نفسها. فما يتحقق في التاريخ، إذن، هو تمثل الروح. وبذلك، فوعي الشعوب يرتبط بالمعرفة التي للروح عن نفسه؛ والوعي المطلق الذي يرجع إليه كل شيء هو الحرية الإنسانية. يجب أن يتجسد وعي الروح في العالم، تجسيد مادته و أرضه التي فيها يتجذر ليست شيئا آخر غير وعي الشعوب. فهذا الوعي يتضمن و يوجه جميع أهداف واهتمامات أي شعب؛ و التي تشكل أخلاقه و قانونه وتدينه… وهو الذي يشكل جوهر روح الشعب؛  وحتى لو أن أفراد الشعب لايعون ذلك، فهم لوازم ضرورية له.  فالوعي هو الضرورة التي ينشأ في جوها الأفراد (…) بحيث لا يستطيع أي أحد تجاوز الحدود التي يضعها هذا الجوهر. يمكن لأي فرد أن يتميز عن الأخرين، لكنه لا يستطيع ذلك إزاء روح الشعب. يمكنه أن يكون المعيا ولكن تجاوز هذه الروح غير ممكن. (…)

إن الروح الشعبيه هي أساسا روح خاصة، ولكنها في نفس الوقت روح كونية مطلقة. روح العالم هي روح الكون التي تتجلى في الوعي البشري. والعلاقة بينهما هي نفسها التي بين الأفراد و الكل الذي يشكل جوهرهم.إن  روح العالم  هي الروح الإلهية المطلقة بالنظر إلى أن الله مطلق الحضور ويوجد في جميع الناس و يتجلى في وعي الكل. يمكن للروح الخاصة لشعب من الشعوب أن تفسد وتختفي، لكنها تمثل مرحلة في المسيرة الشاملة لروح العالم الذي يمتنع في وجوده الزوال» (ص 81-82)

5/ تقدم الوعي

«يمكننا القول يأن التاريخ الكوني يقدم الروح في سعيها إلى التعرف على نفسها. لم يعرف الشرق بأن الروح أو الإنسان يتمتعان بالحرية. لذلك، لم يعترفوا سوى بفرد واحد حر.  غير أن حريته كانت حرية عشوائية و بربرية  و مخدرة بالأهواء: بل إن مشاعر الرقة و الانقياد تظهر هناك كحادث طبيعي و عشوائي.  وبالتالي، فهذا «الحر» الوحيد مجرد إنسان مستبد وليس كائنا حرا في الحقيقة.  لقد بدأ الوعي بالحرية عند الاغريق غير أنهم، ومثلهم الرومان، حصروا الحرية  في بعض الأحرار فقط لا في الإنسان كإنسان. وهو أمر جهله أفلاطون و أرسطو، ولهذا كان لدى الاغريق العبيد الذين ارتهنت حياتهم وحريتهم «الجميلة» بوجودهم. هذه الحرية التي كانت وردة ستفسد، محصورة و طارئة، وكانت عنوانا لاستعباد قاس لكل ماهو إنسان. لكن الشعوب الجرمانية  هم أول من أدرك، بفضل المسيحية، الوعي بأن الإنسان يتمتع بالحرية، وأن الحرية الروحية هي ماهيته الخاصه. وقد بدأ هذا الوعي، أولا، في الدين، في المنطقة الأكثر حميمية في الروح. غير أن تحقيق هذا المبدأ في الحياة الدنيا أمر آخر احتاج تنفيذه جهدا تربويا طويلا ومضنيا. لذا، فتبني المسيحية، مثلا،  لم يمنع مباشرة الاستعباد و لم تنتشر الحرية فورا في الدول. ولم تبن بعد الحكومات والدساتير  على أسس عقلانية أو على مبادئ الحرية. وبناء عليه، فإن إقامة هذا المبدأ في شوون العالم  وإدخاله مع التحولات المتعلقة به هو المسار الطويل للتاريخ.(…)

قلنا بأن وعي التاريخ بحريته، بحقيقة حريته، هو ما يشكل، عموما، عقل الروح و، بالتالي، مآل العالم الروحي. و الحال  أن عالم الروح هو العالم الجوهري  الذي يشكل الغاية النهائية للكون و العالم الطبيعي، من وجهة نظر تأملية، تابع له، ليس حقيقيا ،في مقابل العالم الروحي (…) وقد اشرنا أيضا إلى اهمية الفرق اللانهائي الموجود بين المبدأ القائم بذاته والمبدأ الموجود بالفعل. وفي نفس الوقت، فإن الحرية ذاتها هي التي تحبس في داخلها اللامتناهي الضروري ليصير واعيا – لأنه معرفة ذاتية-و يصبح واقعيا. والواقع أنها هي نفسها الغاية التي يحققها ويجسدها،إنها  الغاية الوحيدة للروح» ص من 83-85

6/  ازدهار الشعوب وانهيارها 

«إن التتالي التجريبي للأحداث في الزمن هو الصيغة المجردة والنشاط الأول لمسيرة روح أي شعب. فنشاط الروح حركة ملموسة. فكل شعب يحدث تطورات  في ذاته، يتقدم وينهار. تفرض مقولة الثقافة  و انحرافها نفسها على الفور:ينتج الشعب هذه اللحظة الأخيرة وهي سبب هلاكه.  غير أن كلمة  الثقافة لا تدل على المحتوى الجوهري لروح الشعب. إن الثقافة دالة على العالمية: فالإنسان المثقف هو الذي يطبع ، بمعرفة منه،  جميع تصرفاته بختم العالمية – هو الذي يتخلى عن خصوصيته و يتحرك في توافق مع مبادئ كونية. الثقافة شكل من أشكال التفكير. فالإنسان المثقف يستطيع لجم نفسه ولا يتصرف تبعا لميوله و رغباته. وبفضل ذلك، فهو يعترف للموضوع بالحرية و يتعود على حياة الفكر والتأمل.  و ينضاف إلى ذلك التعود على تمييز الجوانب الخاصة المفردة و اجتزاء الظروف و العمل بشكل تجريدي، و إضفاء طابع الكونية على مختلف المظاهر. الإنسان المثقف يعرف مختلف جوانب الموضوعات التي توجد لأجله  وتضفي عليها تأملاته العالمة صفة الكونية. وبالمقابل، فإن الجاهل/ غير المثقف ، مهما كان حسن النية، يمكنه وهو يمسك بجانب مهم في الأشياء و تشويه الكثير من الجوانب الأخرى. فبحفاظه على  التنوع، يتصرف المثقف  وهو معتاد على العمل وفقا لأهداف ووجهات نظر كونية. و باختصار، فإن الثقافة تختم اي محتوى أو مضمون بختم العالمية. (…)

حالما يكتمل تكوين شعب ما، و بعد أن يحقق غايته، يزول اهتمامه العميق. فروح الشعب فرد طبيعي؛ يزدهر و يتقوى ، وبعد ذلك يتضاءل  ثم  يموت. فمن طبيعة التناهي أن يقبل الروح المحدود الفساد. فهو حيوي و نشط. يكتمل بعمله الذي ينتجه و ينجزه. ويقع التعارض  كلما امتنع التوافق بين مفهوم هذه الروح  مع الواقع، ولم يتهيأ  لمفهومه الداخلي أن يبلغ الوعي بذاته، أما إذا أمكن للروح أن يتموضع ويتخارج و ينجز مفهومه بصورة كاملة، فإنه يقبل على الافتخار بذاته افتخارا يتوسع بلا مقاومة. (…) فمثلما أن الأنسان تميته العادة، فروح الشعب تموت في الافتخار  والزهو(…) ورغم أنها تظل نشطة، إلا أن هذه الحركية تهم فقط المصالح الخاصة ولا تتعلق بمصالح الشعب. تتجرد الحياة حينها من المصلحة العليا  والعظيمة (…).

 يعبر الجمود السياسي – وهو ما نسميه بالعادة- عن الموت الطبيعي لروح الشعب.  فالساعة ضبطت وتشتغل من تلقائها. والعادة هي نشاط لا يقاوم، (…) مجرد جمود و ضجر.(…)في هكذا موت، قد يشعر الشعب براحة كبيرة بالرغم من خروجه من حياة الفكرة. حينها يصيح وسيلة وأداة لمبدأ اعلى و إقليما لشعب آخر يسود فيه مبدأ اسمى (…)

كل شعب يقبل على الشيخوخة و الضآلة و فقدان أي معنى بالنسبة للتاريخ الكوني، و يكف عن حمل مشعل أعلى مبدأ يمنحه الروح. في جميع مراحل التاريخ يهيمن الشعب الذي يمتلك المفهوم الروحي الأعلى. ويمكن لشعوب أخرى البقاء بدون أن تدرك مثل هذا المبدأ الأعلى ؛ ولكنها تكون خارج التاريخ الكوني. (…) يمكن أن نلاحظ كيف يهيء روح شعب ما نهايته  بنفسه.  و يظهر الانحطاط في صور مختلفة: ظهور الفساد في الداخل وإطلاق العنان للشهوات؛ وتبحث الخصوصية عن الإشباع فقط، إلى حد يشل فيه الروح الجوهري و يهلك. و تهيمن المصالح الخاصة على القوى و الوسائل التي كانت في خدمة الجميع من قبل، و هكذا يظهر ما هو سلبي كفساد داخلي،  و كنزعة ضيقة.  وكقاعدة عامة، تستدعي  هكذا وضعية   العنف الخارجي الذي يقصي الشعب من ممارسة سيادته و يفقده الأولوية. ومع ذلك، فإن العنف الخارجي ليس إلا ظاهرة عارضة : فلا يمكن لأي قوة أن تدمر روح اي شعب من الداخل أو الخارج ما لم يكن هو نفسه بدون حياة و ما لم يكن قد اضمحل بالفعل.

لكننا نجد بأن الموت تتبعه الحياة. وهذا ما يظهر في الطبيعة: في البراعم التي تذبل و التي تنبت . غير أن سيرورة الإحياء في الطبيعة مجرد تكرار لنفس الأمر،  تاريخ رتيب  يحتكم لنفس الدورة دائما.  لا يوجد شيء جديد تحت الشمس. لكن الأمر مختلف بالنسبة لشمس الروح. فمسيرته وحركته لا تقومان على التكرار؛ فالمظهر المتغير للروح في صوره المتجددة باستمرار دليل، في العمق ، على التقدم. تقدم يتمظهر في ذوبان روح شعب بفعل تفكيره السلبي: إذ تصبح المعرفة والتصور الفكري للكائن مصدرا ومحلا ينشأ فيه  شكل جديد وأرقى يرتبط بمبدأ يقوم على المحافظة و التغيير.  فالفكر كوني لا يفنى ويظل دائما مكافئا لنفسه. وهكذا فإن الصورة الروحية لا تمر مثل مرور الأشياء الطبيعية، وإنما تتجاوز في سياق النشاط العفوي الواعي لسيرورة الوعي الذاتي. ولأن هذا التجاوز، بالضبط، عمل فكري فهو يقوم على المحافظة و التجديد. ذلك أنه، بتجاوز ما هو كائن، فإن الروح تدرك، في الوقت نفسه، الماهية والوعي و معرفة المعنى الكوني لما قد كان. (…)

يظهر إذن، بأن حياة أي شعب تنضج بها فاكهة   ما، ما دام  نشاطها الكلي يروم تحقيق مبدأ ها بالكامل. غير أن هذه الفاكهة لا تسقط في حجر ذلك الشعب. ليس مسموحا له  الالتذاذ بها. و بالعكس، فإن هذه الفاكهة تتحول إلى علقم مفروض عليه تناوله لإرواء عطشه، رغم أنه هو السبب في اندثاره وفي مجيء مبدأ جديد في نفس الوقت. أي أن الفاكهة تصبح بذرة تنضج  عند شعب آخر. فالروح اساسا منتوج لنشاطه، ونشاطه هو تجاوز فوريته و نفيها  والرجوع الى ذاته. 

الروح حرة تسعى إلى تحقيق الغاية التي يقتفيها الروح الكوني في التاريخ الكوني. وعملها يتمثل في التعرف على نفسها. عمل يكتمل تدريجيا وعبر مراحل. لذلك تشكل روح اي شعب مرحلة جديدة في الصراع الذي تخوضه روح العالم لتنكشف على وعيها وتلتقي بحريتها. 

7/ الغاية النهائية

«يتعلق الأمر، إذن، بالغاية النهائية التي تقصدها الإنسانية، و التي يعرضها الروح وينجزها في العالم مدفوعا بقوة لا متناهية. ولكي ندرك هذه الغاية النهائية من الأجدر أن نتذكر ما قلناه عن روح الشعب. قلنا بأن موضوع الروح ليس شيئا آخر غير ذاته. لا وجود لشيء أسمى من الروح، أو يستحق أن يكون موضوعا له. ولن يجد الروح السلم و لن يكون بإمكانه أن ينشغل بشيء قبل أن يتعرف على ماهيته. مؤكد بأن هذا مجرد كلام نظري عام، إذ توجد هوة بين ما نعتقد بأنه يشكل الاهتمام الأسمى للروح وبين ما شغل، في التاريخ، بال واهتمام الشعوب والأفراد. إذ، من وجهة النظر التجريبية، نلاحظ بأن الشعوب انشغلت بتحقيق مصالح أهداف خاصة. تأملوا، مثلا، الصراع بين روما وقرطاج . توجد هوة كبيرة بين كل هذا وما نحاول البحث عنه في الظواهر التاريخية. غير أن هذا التعارض بين الاهتمامات المتجلية  في التاريخ  و ما نعتقد بأنه اهتمام الروح المطلق سيرتفع فيما بعد. ولنقل الآن بأنه من اليسير أن نستوعب بأن حرية الروح تفرض أن يكون مستقلا بذاته وإلا كان تابعا ومقيدا في الحال المعاكس. … و بالفعل، يمكننا القول بأن الروح ملزم بأن يتلاءم معه العالم الموضوعي، أو أن يكون «هو» بأن يظهر ويموضع مفهومه.فالروح تعي ذاتها في العالم الموضوعي، حيث تتوافق الموضوعية مع «المتطلب الداخلي» وحيث تكمن الحرية. وعلى هذا الاساس، فإن التعاقب التاريخي لن يكون مجرد تراكم كمي. وهذا أمر يقبله الوعي العادي الذي يعي ماهيته من خلال المرور ببعض المراحل الثقافية. على الروح، إذن، ان تدرك حقيقتها وأن تجسد هذه المعرفة وتحولها إلى عالم واقعي و أن تنتج ذاتها موضوعيا. هذا هو الهدف الكوني. (…)

 التاريخ الكوني تجلي للمسار الإلهي المطلق للروج في صورها السامية: المسيرة التدريجية التي يدرك عبرها حقيقته ووعيه بذاته. وتعتبر الشعوب في التاريخ، بسماتها الأخلاقية و دساتيرها وفنها و تدينها وعلومها،   بمثابة تشكيلات لهذا المسيرة التدريجية. لذلك، فإن اجتياز هذه المراتب هي الرغبة اللامتناهية و الدفعة التي لا تقاوم لروح العالم، لأن مفهومه يظهر في تجليتها  و في إنجازها . إن المبادئ الخاصة بروح أي شعب، في تعاقبها الضروري، ليست إلا لحظات للروح الكونية المتفردة: بفضلها يرتقي في التاريخ الى كلية تتسم بالشفافية في ذاتها ويدرك خاتمته (…)

الله يحكم العالم.  ويظهر محتوى حكمه واكتمال تدبيره في التاريخ الكوني. فمهمة فلسفة التاريخ إذن هي إدراك هذا التدبير بفرضية تعتبر بأن المثال يتحقق و أن ما يتوافق مع الفكرة هو الحقيقي. (…)

يطرح السؤال التالي: ما هي الوسائل التي تعتمدها الفكرة؟ (ص 95. 101)

مقتطف من كتاب «العقل في التاريخ» لهيجل، ترجمة عبد السلام أولباز، ورزازات، 1 سبتمبر 2024)

س) وسائل التحقيق

كيف تدرك الغاية النهائية للتاريخ؟

مقدمة

« لايمكننا ، ونحن نمحص مشهد الأهواء وعواقب عنانها، ونحن نرى العبث يقترن لا بالأهواء فحسب، و إنما يقترن أيضا وعلى وجه خاص بالنوايا الطيبة والغايات المشروعة. عندما يضع التاريخ أمامنا الشر والظلم و فساد أزهر الإمبراطوريات التي أنتجتها العبقرية البشرية، و لما نسمع بحسرة وأسى شكاوى الناس، لا يسعنا إلا أن نحزن ونقلق. و بما أن هذا الفساد من عمل إرادة البشر وليس من عمل الطبيعة فقط، فإن مشهد التاريخ قد يخلق فينا معاناة أخلاقية وثورة روح الخير ضد روح الشر الموجودة فينا. يمكننا تحويل هذه الخلاصة، وبدون مبالغة خطابية، إلى جدول مرعب و بتفصيل دقيق لما تلقته الفضيلة والبراءة وأفضل الشعوب و الدول  من صفعات مؤلمة. يجتاحنا، بذلك،  ألم عميق لا يبرأ ولا يمكن لأي شيء تهدئته. و لنتحمل هذا الألم  أو نتخلص من سطوته نقول: هكذا كان، هو القضاء، لا يمكننا فعل أي شيء؛ ونغرق بعد ذلك في شؤوننا الخاصة، أهدافنا واهتماماتنا الآنية، في الأنانية  ونستمتع، على شاطئ هادئ، وفي أمان بهذا المشهد البعيد للخليط الكثيف للحطام. ومع ذلك، ورغم أن التاريخ يظهر كمذبح ضحي فيه بسعادة الشعوب وحكمة الدول وفضيلة الأفراد، فإن السؤال الذي يطرح ضرورة هو: لمن، لأي غاية هذه التضحيات؟ بهذا السؤال بدأنا تأملنا لنعرف، من خلال  هذا الجدول، الوسائل المعتمدة لأجل ما نعتقد بأنه يشكل الغاية الجوهرية والنهائية أو النتيجة الحقيقية للتاريخ الكوني» (ص 102-103)

1/ المصالح والأهواء

 «لا تفرض القوانين والمبادئ نفسها فوريا  ومن تلقاء نفسها. ذلك أن حاجة الإنسان و رغباته و ميوله و أهواءه هي التي بها توجد و تتأجرأ . فلكي أمنح لأمر ما الوجود علي ان أكون مهتما به. علي المشاركة فيه تنفيذه بطريقة تروق لي و يكون صالحا لي. «الاهتمام» هو «أن أنخرط في شيء ما»؛ في غاية شخصية أحرص على نوالها. علي في نفس الوقت أن أنال هدفي الخاص رغم أن الغاية التي لأجلها أعمل تمثل مظاهر أخرى لا تعنيني. وهذه هي اللحظة الثانية الأساسية للحرية: حق الذات اللامتناهي  في إدراك الإشباع من نشاطها وعملها.  لنا الحق في استعمال مفهوم «الاهتمام»  بمعنى قدحي مؤاخذة الفرد المصلحي لأنه يهتم فقط بمصلحته الخاصة ولا تعني له المصلحة المشتركة شيئا و قد يتخذها غطاء يستفيد منه أو ربما يضحي بها لأجل ذلك. …لذلك، فلا شيء يحصل أو يكتمل  بدون أن ينال المساهم فيه مأربه أيضا. ذلك أن الخواص، أي الناس الذين لديهم حاجات و رغبات و مصالح خاصة على العموم، يشاركهم في ذلك غيرهم. و يجب أن نأخذ بعين الاعتبار إلى جانب الاهتمامات الحاجية و الارادية الاهتمامات الفكرية و قناعاتهم أو آراؤهم على الأقل، إذا ما توقظت لديهم الحاجة إلى الاستدلال و الفهم و العقل بطبيعة الحال. كما أن السبب الذي يحرك أفعال الناس يجب أن يتوافق مع رأيهم ورغبتهم ومصلحتهم. 

في التاريخ الكوني، نكون بصدد الفكرة التي هي المبدأ الأول؛ والثاني هي أهواء الناس. وكلاهما يشكل حبكة  التاريخ  الكوني وحبله. الفكرة هي الحقيقة و الأهواء هي الأذرع التي  تحكم بها  الفكرة» (ص 104-106)

2/ مكر العقل

«قلنا بأن كل ما يحدث تعزره مصلحة المساهمين فيه. هذه المصلحة نطلق عليها اسم الهوى عندما تنشغل الفردانية كليا بغاية ما بكل جوارحها جامعة حولها قل قواها وحاجاتها في الوقت التي تبعد عنها الاهتمامات و الأهداف الأخرى. بهذا المعنى يمكننا القول بأن لا شيء عظيم يكتمل  في عالم الأهواء. فالهوى، بداية، يمثل الجانب الذاتي والشكلي لطاقة الإرادة و الفعل، لا يتعين في عالمه المحتوى و الهدف (…) ذلك أن الهدف لا يوجد بصفة ذاتية و طبيعية فقط : يتعلق الأمر برغبة لاشعورية كامنة في الطبقات العميقة للنفس، وكل عمل التاريخ الكوني اجتهاد لأجل حمله إلى مستوى الوعي. لقد ظهر الإنسان ككائن طبيعي بإرادة طبيعية: وهذا ما ندعوه بالجانب الذاتي، الحاجة، الرغبة، الهوى، المصلحة الخاصة، الرأي والتمثل الذاتي. فهذه الكتلة  الهائلة من المصالح و الأنشطة تشكل أدوات ووسائل يعتمدها روح العالم لكي يدرك غايته، ويرفعها إلى الوعي وتحقيقها. إن الشعوب تندفع بحيوية دائبة بحثا وطلبا لتنال مصالحها الخاصة، غير أن هذا الاندفاع هو، في ذات الوقت، هو وسيلة  وأداة لشيء أكبر وأوسع يجهلونه و يقومون به بدون شعور (…) وعليه فإن أفعال الناس ينتج عنها شيء آخر مختلف عن ما اندفعوا إليه و ما ادركوه وعن ما يعرفون و ما يريدون مباشرة. يتحصلون على مصالحهم وفي نفس الوقت ينشأ شيئ آخر مخفي، لا ينتبه إليه الوعي ولا تدركه أبصارهم» (ص 108-111)

الأبطال وسيلة يتحقق بها الهدف الكوني أو الغاية المطلقة. يقول هيجل في كتابه «العقل في التاريخ»

3/ الأبطال

«إنهم الأبطال التاريخيون الذي يدركون هذا  الكوني ويقصدونه ويخرجون إلى الوجود هذا الهدف المتناسب مع المفهوم الأسمى للروح. لذلك ندعوهم بالأبطال. فهم لم يأخذوا غاياتهم واهتماماتهم من مجرى الأشياء في النسق الهادئ و المنتظم للنظام. فمبرر وجودهم ينال من مصدر مختلف. من الروح الخفية والمطمورة التي لم تدرك بعد الوجود، و لكنها تضرب في الاتجاه المعاكس للعالم الحالي لأنها تمسكه بلحاء لا يناسب نواة هذه الروح.  ومع ذلك، جميع الآراء والمقاصد وألمثل التي تعاكس المعايير القائمة لن تنتمي إلى هذا المستقيل, فالمغامرون على اختلافهم يمتلكون هذا النوع المثل ويتصرفون دائما ضد التيار السائد، ولكن ذلك لا يمنحهم صفة البطولة. ذلك أن المقاصد الحقيقية هي تلك التي تنبع من محتوى بلوره الروح الداخلي بنفسه بالنظر إلى قوته المطلقة. والأبطال في التاريخ هم أولئك الذين ارادو وأنجزوا شيئا حقا وضروريا ادركوه بعد ان ألهمت دواخلهم بما هو ضروري وينتمي إلى ممكنات الزمن.(…)  فالكوني المنجز من لدنهم غرفوه من عندهم؛ لم يكن شيئا مخترعا، بل شيئا موجودا منذ الأزل، وهم من جسده وأنجزه و فيهم  يشرف ويكرم ».

الأفراد التاريخيون هم أول من أعلن عما يريده  الناس. إذ من الصعب معرفة ما نريد. يمكننا، بالتأكيد، أن نرغب في هذا أو ذاك، غير أننا نبقى في السلبي و القلق:فقد يسوءنا الوعي بالإيجابي. غير أن العظماء يدركون بأن الإيجابي هو ما يسعون إليه إرضاء لهم لا للغير. سيكون أمرا غير مجد مقاومة الأبطال لأن اندفاعهم الى إكمال عملهم لا حدود له.  و بعد أن يتضح بأنهم على حق، أما  الآخرون ، حتى لو جهلوا ذلك، فسيتمسكون به ويدعوه يحدث. ذلك أن عمل الرجل العظيم تكون له سلطة تتعذر مقاومتها ولو كانت خارجية و غريبة أو كانت ضد إرادتهم. ذلك أن الروح في تقدمها نحو شكل جديد تسري كروح داخلية و لاشعورية في جميع الأفراد. والأبطال هم الذين يرفعونها إلى مستوى الوعي. أي أن ما يفعلونه يطابق ما يرومه ويريده الآخرون ، ولذلك فهو يمارس سلطته عليهم – بالرغم من تحفظات إرادتهم الواعية – فهم يهتدون بهذه الموجهات الروحية لأنهم يشعرون – جوانيا-  بقدرتها  التي لا تقاوم.

إذا ما نظرنا  بعيدا إلى مصير «الأبطال» في التاريخ،  ندرك السعادة التي نالوها  وقد كانوا سببا في تحقق أحد الأهداف التي تشكل مرحلة من المراحل في المسيرة التقدمية للروح الكوني.  غير أن هؤلاء الأبطال لم يكونوا سعداء-  في المعنى المتداول-في حياتهم الخاصة.  فالسعادة لم تكن غايتهم. كانت غايتهم هي تحقيق هذا الهدف الذي أدركوه بجهد كبير وبمقاومة شجاعة. لم يختاروا السعادة وإنما اختاروا المعاناة والعراك والعمل لأجل هدفهم (…)وبمجرد ما تحقق الهدف سقطوا كأكياس فارغة… إما موتا -في عز الشباب- كالإسكندر أو اغتيالا كقيصر و إما نفيا كنابليون.  لم يحوزا شيئا آخر غير مفهومهم و غايتهم و منجزهم. هؤلاء لم يعرفوا السعادة الممكنة في الحياة الخاصة  التي تشرطها العوامل الخارجية. و الذين يبحثون لهم عن عزاء مروع يمكنهم البحث عنه في التاريخ. غير أن الغيرة مما هو عظيم و رائع هي التي تدفع مثل هؤلاء الذين  ينتقصون ويعيبون. فالعظماء، في تصورهم،  كانوا أشقياء.  وهذا امر ثابت في هذا الزمان أيضا حيث يشار إلى أن الأمراء ليسوا سعيدين على عروشهم. غير أن الرجل الحر لا يغار ويعترف بالشخصيات العظيمة عن طيب خاطر.

العظماء تتبعهم قافلة من الغيورين اللذين يستنكرون أهوائهم وكأنها أغلاط. وبالفعل فإن الهوى ينطبق على التمظهر الخارجي و يمكن ،يناء على حكمنا عليهم أن نؤكد على الجانب الأخلاقي ونعتبر بأن الشغف هو دافعهم. وبالفعل كانوا شغوفين في اقتفاء هدفهم وتسخير طيعهم و عبقريتهم و هواهم في سبيل تحقيقه. فما هو ضروري في ذاته ولذاته يظهر هنا في صورة شغف. إذ يبدو أن هؤلاء العظام يطيعون شغفهم ونزواتهم لا غير. لكنهم يريدون الكوني الذي يحرك مشاعرهم.  فالشغف طاقة لهم وبدونه لا يمكنهم إنشاء أي شيء. يلتقي الشغف مع الفكرة حول نفس الهدف: الشعف هو الاتحاد المطلق للطبع مع الكوني. يوجد جانب حيواني في الطريقة التي يتوحد بها الروح في خصوصيتها الذاتية مع الفكرة» (ص 120-125)

على سبيل الخلاصة: «لا ينفصل الاهتمام الخاص للشغف، إذن، عن الإقرار الكوني الفعال؛ لأن الكوني يتولد من الخاص والمحدد، و من نقضهما. فالخاص له مصلحته في التاريخ، ووجوده متناه مكتوب عليه الفساد. إن الخاص هو الذي ينقضي في المعركة و يدمر جزئيا. من هذه المعركة و  انقضاء الخاص يتولد الكوني الذي لا يتأثر  بالمعركة مطلقا. فالفكرة لا تدخل المعركة و لا تعرض نفسها للخطر وتتوارى في مكان خلفي نائية بنفسها عن أي هجوم  أو خسارة و تولي الشغف مكانه في المعركة لكي ينفذ ويستهلك. قد يكون هذا مكرا  للعقل  الذي يورط الشغف في المعركة لكي يوجد  على انقاضه. ذلك أن الظاهر بدون أهمية في بعضه و له قيمة إيجابية في البعض الآخر. الخصوصي  ضئيل جدا مقارنة بالكوني: لذلك تتم التضحية بالأفراد و تنحيتهم. والفكرة لا تؤدي ثمن الوجود  … بها، بل بواسطة شغف الأفراد. كان على القيصر أن يقوم بما هو ضروري ويعطي الضربة القاضية للحرية المختضرة، وسيلقى بنفسه ذات المصير. غير أن الضروري سيبقى: فالحرية من وجهة نظر الفكرة تتحقق من اسفل ال؟؟ (ص 129-130) (ترجمة عبد السلام أولباز)

د/ أداة تجلي الروح: نظرية الدولة

«علينا إذن أن نتعرف على الغاية التي ستدرك بهذه الوسائل .  أقصد هذه الغاية  التي ستتجسد بهذه الوسائل في الواقع. 

إن التغيرات في التاريخ ترتبط  بأمر تتولد منه. وقد راينا بأن هذا الشيء هو إرادة الشخص. فالشخص، أو الذاتية عموما، هو اللحظة الأولى.  فالمادة التي يدرك فيها العقل الوجود هي المعرفة وإرادة الإنسان. ومع ذلك، تيقى هذه الإرادة محدودة بالأهواء التي تحركها  و نوال حاجاتها الخاصة لن يتم إلا في إطار هذه الحدود. لكن، وقد بينا بأن الإرادة الخاصة لها حياة جوهرية أيضا وحقيقة بها تنشط فيما هو ضروري و تجعل منه غاية وجودها. يتمثل هذا العنصر الضروري الذي تتحد فيه الإرادة الشخصية مع الكوني في الكل الأخلاقي وفي الدولة – صورته الملموسة.فالفرد يحمل في نفسه المعرفة و الإيمان وإرادة الكوني،و  الدولة هي الواقعة التي فيها يجد ويستمتع بحريته . وهكذا فإن الدولة هي المكان  الذي تلتقي فيه مختلف جوانب الحياة: الفن، الحق، الأخلاق ومرافق الحياة. تصبح الحرية في الدولة حرية موضوعية و تدرك بشكل يقيني. وهذا لا يعني مطلقا بأن الإرادة العامة تسخر من طرف الإرادة الخاصة لتحقق مصالحها ومنافعها. كما لا يعني أن الدولة  لا يختزل عملها في تأمين حياة مشتركة تحد من حرية الأفراد. فقد  نتصور بأن المجتمع الذي يتجاور داخله الأفراد و  التقييد المشترك لحريتهم لأ يترك لهم إلا مجالا صغيرا لأنفسهم. غير أن هذا التصور للحرية تصور سلبي محض. وعلى العكس من ذلك، فإن القانون والنظام الأخلاقي والدولة هي الحقيقة الوضعية الوحيدة و الإمكانية الوحيدة لممارسة الحرية.  الحرية الوحيدة التي تصادر هي الحرية العشوائية التي تهتم فقط بالمصالح الخاصة. 

في الدولة فقط يدرك الفرد وجودا يتوافق مع العقل.  وهدف التربية هو أن يجد الفرد ذاته بصورة موضوعية في الدولة و ألا يكون مجرد موجود ذاتي صرف. يمكن للفرد أن يتوسل بالدولة لتحقيق مصالحه، ولكن الصواب يفرض  على الجميع طلب نفس الأمر و التخلي عن اللا-ضروري. فوجود الفرد الكلي – قيمته وهويته الروحية، يدين فيه للدولة.

إن ما  يهم داخل الدولة هو التعود على التصرف في توافق مع الإرادة العامة و تحديد الكوني كغاية. فحتى في الدول الأكثر بدائية تخضع الإرادة لإرادة أخرى.  وهذا لا يعني بأن الفرد فاقد للإرادة الذاتية  لكنه، يعني فقط بأن إرادته  تكون بدون قيمة بما أن اللذات والتفضيلات الشخصية ليست لها أي صلاحية. … وهذا الكبت هو اللحظة الأولى الضرورية لحلول الكوني: لحظة المعرفة ودخول الفكر إلى الدولة. فقط في الدولة  يمكن للفن و الدين الوجود. يتعلق الأمر هنا بالشعوب المنظمة عقلانيا. ففي التاريخ الكوني، لا محل إلا للشعوب التي قامت كدولة. فمن المستحيل أن نتصور وجود مثل هذا الأمر في جزيرة متوحشة أو في الحالات المنعزلة. صحيح بأن الرجال العظام نشأوا وحيدين- غير أنهم لم يقوموا إلا بما  قد تبلور في سياق الدولة. لا يجب أن يكون الكوني موضوعا لتفكير الأفراد فقط – يجب أن يظهر كواقع ملموس. ولذلك يوجد في الدولة – حيث لا اهمية لشيئ آخر غير الكوني- والحياة الداخلية  هي في نفس الوقت أمر واقع. اكيد بأن الواقع يقوم على التعدد الخارجي و لكنه يدرك في شموليته. (ص 134-138)

Tags:

No responses yet

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Latest Comments

No comments to show.
Review Your Cart
0
Add Coupon Code
Subtotal